الاثنين، 21 ديسمبر 2009

أدواء القلوب وأدويتها

بسم الله الرحمن الرحيم


أدواء القلوب وأدويتها

الحمدلله مظهر الحق ومبديه, ومنجز الوعد وموفيه , ومسعد العبد ومشقيه, ومذهب الذنب ومخفيه, ومظمى القلب ومرويه, ومعل الصب ومشفيه, ومزيل الكرب ومجليه, ومرسل السحاب ومنشيه, ومبسم البرق وموريه, ومنطق الرعد ومدويه, ومورق الشجر ومربيه, ومونق الزهر ومزهيه, وممر الثمر ومحليه, ومصور الجنين ومغذيه, ومحق الحق ومبقيه, ومبطل الباطل ومنفيه, أحمده وأشكره تعالى , بيده أدواء القلوب وعللها , وحزنها وشقائها وكربها وهمومها, وبيدها شفاء الصدور وأدويتها وسعادتها وراحتها ..
والصلاة والسلام على خاتم المرسلين, وسيد الأولين والآخرين, محمد الصادق الأمين, وعلى آله وأزواجه أمهات المؤمنين, وعلى أصحابه والتابعين أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

القلب أهم عضو في جسد الانسان بل هو ملكها, ولكنه مثلها معرض للأدواء والأسقام والاوجاع, بل أنه أكثر منها عرضة لذلك, فهو لا يصاب بالأدواء والأمراض التي يمكن للأطباء معالجتها بالأدوية أو بالجراحة فحسب, وأنما يصاب بأدواء أخرى وأوسقام لا يصاب بها غيره من أعضاء الجسد يعجز الأطباء عن مداواتها وشفائها, وهذه هي الأدواء التي سوف نتطرق إليها في مقالنا هذا, إن شاء الله تعالى..
الله عزوجل جعل للقلب كمالاً إذا فقده حضرته أسقامه وآلامه, قال تعالى(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) سورة البقرة(10)وقال تعالى(ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم)سورة الحج الآية(53), وقال تعالى(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض)سورة الأحزاب(32),وقال تعالى(وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون* وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين* أفي قلوبهم مرض أم أرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون)سورة النور الآيات(48- 50),وقال تعالى(فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)سورة المائدة (52) وقال تعالى(وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون)سورة التوبة(125) وقال تعالى(وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا)سورة المدثر(31)
لكن أدواء القلوب تختلف عن أدواء أعضاء الجسد الآخرى من حيث النوع والأسباب والأدوية والطبيب المعالج..
فما هي أدواء القلوب وأسبابها وماهي أدويتها؟

أدواء القلوب ومسبابها:

الأدواء التي تصيب القلوب كثيرة منها الشبهة والشك والشهوة والغي والقساوة والهموم والغموم والضيق والكروب والضنك والاحزان والقلق والضجر والأرق والعشق المحرم وغيرها, وهناك العديد من الأسباب لأدواء القلوب, منها الشرك بالله عزوجل والبعد عنه وارتكاب الكبائر والمعاصي والأثام والغفلة والتسويف في التوبة, وترك الفرائض والسنن والنوافل, وهجر القرآن الكريم, والجهل والنظر إلى ما حرم الله عزوجل وسماع اللهو والمعازف والغناء, والطمع واللهو والإنشغال بزخرف الدنيا وشهواتها والسعي وراءها وحب المال حبا جما وكسبه بطرق الحرام وأكل الربا, وعدم حضور مجالس العلماء وعدم التفكر في الموت وفي الأخرة والنار, والجزع عند المصيبة أو البلاء وغيرها.
وقد بين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى أعظم أدواء القلوب فقال(ومن أعظم أدوائه: الشرك والذنوب والغفلة والإستهانة بمحابة ومراضية وترك التفويض إليه, وقلة الاعتماد عليه, والركون إلى ما سواه والسخط بمقدوره والشك في وعده ووعيده)
وقال أيضاَ أن من أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى وتعلق القلب بغيره والغفلة عن ذكره ومحبة سواه فإن من أحب شيئاً غير الله عذب به وسجن قلبه في محبة ذلك الغير.


أدوية القلوب:

إن المرض لا يزال إلا بالضد, والصحة لا تحفظ إلا بالمثل, فدواء القلوب لا تكون إلا بترك مسبابتها والمداومة على ضدها, والإنسان وحده طبيب قلبه, فبيده الداء وبيده الدواء, وقد قال أحد الحكماء(دواء القلب في خمسة أشياء, قراءة القرآن الكريم بتدبر, وخلاء البطن, وقيام الليل, والتضرع عند السحر, ومجالسة الصالحين)
فمن أصيب قلبه بإحدى الأدواء فعليه بمداواة نفسه بالأدوية التالية:
1- التوحيد بأنواعه توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية والتوحيد العلمي والإعتقادي وتوحيد الأسماء والصفات وهذا هو أول أدوية القلوب التي لا يتم شفاؤها إلا به.
2- الإنابة إلى الله عزوجل ومحبته بكل القلب والإقبال عليه والتنعم بعبادته, والإبتعاد عن محبة سواه, فمحبة الله عزوجل جنة الدنيا وإنشراح الصدر وسرور النفس ولذة القلب ونعيم الروح وغذاؤها ودواؤاها بل هي حياتها وقرة عينها, وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر اشرح وأفسح, وأما محبة غيره في عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب, وضيق الصدر وسبب الألم والنكد والحزن.
3- تلاوة القرآن الكريم أناء الليل وأطراف النهار, والعمل بما جاء به المولى عزوجل في كتابه الكريم, واتباع أوامره وإجتناب نواهيه, وعدم الإعراض عنه, قال تعالى(وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)سورة الإسراء الآية(82) وقال تعالى(قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في ءاذانهم وقرٌ وهو عليهم عمى)سورة فصلت الآية(44), وقال تعالى(ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)سورة يونس(57), كما أن الإعراض عن ذكر الله سبحانه وتعالى, وعن ما جاء في القرآن الكريم سببا في الضنك والضيق والحرج, قال تعالى(ومن أعرض عن ذكري فأن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) سورة طه الآية(124).
4- الإستقامة والصلاح وإقامة الشعائر الدينية والمواضبة على أداء الصلوات الخمس في المسجد مع الجماعة, وأداء النوافل والصلاة في الليل والناس نيام, وأكثار الدعاء فيها, لأن الصلاة صلة بين العبد وربه ومصدر راحة القلوب وسعادتها, فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن يقول لموذنه بلال بن رباح رضى الله عليه (أرحنا بها يابلا ل) فالصلاة من أهم الأدوية التي تشفي القلوب من أسقامها وأوجاعها, لأنها مصدر راحة المسلم وأطمأنانه وسعادته وسروره وجلاء همومه وأحزانه.
5- التوبة والإستغفار وذكر الله في كل وقت وحين والبكاء في الخلوة ومحاسبة النفس: لأن التوبة والإستغفار وذكر الله خالياً ومحاسبة النفس هي أساس السعادة ودواء القلوب وجلاء الهموم وهي طريق الفلاح والفوز والنجاح في الدنيا والأخرة وهي سبب النجاة من النار ومن غضب العزيز الجبار.
6- ترك المعاصي والذنوب والأثام والإقلاع عنها: لأن ارتكاب المعاصي والأثام والمداومة عليها صغيرها وكبيرها, هي الداء الثاني بعد الشرك بالله التي تصيب القلوب وتهلكها, لأنها الطريق إلى الشقاء والحزن والقلق والظنك وضيق الصدر..
قال ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد المجلد الرابع: قال بعض المتقدمين من أئمة الطب من أراد عافية الجسم فليقلل من الطعام والشراب ومن أراد عافية القلب: فليترك الآثام..
وقال ثابت بن قرة راحة الجسم في قلة الطعام وراحة الروح في قلة الآثام , وراحة اللسان في قلة الكلام, والذنوب للقلب بمنزلة السموم:إن لم تهلكه أضعفته ولا بد, وإذا أضعفت قوته: لم يقدر على مقاومة الأمراض .
قال طبيب القلوب عبدالله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب ***وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب*** وخير لنفسك عصيانها
فالهوى أكبر أدوائها ومخالفته أعظم أدويتها والنفس في الأصل خلقت جاهلت ظالمة فهي لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها, وإنما فيه تلفها وعطبها ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح بل يضع الداء موضع الدواء فتتعمده ويضع الدواء موضع الداء فتتجنبه, فيتولد من بين إيثارها للداء واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء, ويتعذر معها الشفاء.
7- الخوف والخشية من الله عزوجل ومن عذابه يوم القيامة وأن لا يأمن مكر الله عزوجل, لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الظالمين, وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه, أنه لا يأمن مكر الله حتى ولو كأنت إحدى قدميه في الجنة, ويجب على الإنسان أن يجعل لنفسه وقت في الليل يخلو به بنفسه فيتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى ويحاسب نفسه عن التقصير والذنوب والمعاصي التي أرتكبها, فيتوب ويستغفر الله عزوجل ويكثر من البكاء خوفاً من الله عزوجل.
8- التوسل إلى المولى عزوجل بأسماءه وصفاته, والدعاء بالادعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورد في السنن وصحيح ابن حبان من حديث أنس:أن رجل دعا فقال اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلا والإكرام, يا حي يا قيوم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم(لقد دعا الله باسمه الأعظم,الذي إذا دعُى به أجاب وإذا سئل به أعطى), وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال الله إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض في حكمك, عدل فىَّ قضاؤك, أسألك بكل أسم هو لك سمَّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك, أو علمته أحداً من خلقك, أو أستأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني, وذهاب همي, إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحاً.) حديث صحيح, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت, لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شئ قط إلا استجاب له) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي.
9- تعلم القرآن الكريم وأحكامه وتعلم السنة النبوية الشريفة والتفقه في الدين وتعلم كل علم نافع في الدنيا والأخرة لأن تعلم العلوم الدنيوية والأخروية تنير القلب وتشرح الصدر وتريح البال, لأن الجهل يميت القلوب وكذا تعلم العلوم الدنوية البحتة التي يقصد صاحبها من تعلمها الدنيا وجمع حطامها الزائل فأنها تضيق الصدور تزيد القلوب ظلمة وجهل.

10- الصبر على المصائب والمحن, والثبات عند الشدائد مهما عظمت, وجعلها سببا للتقرب إلى الله عزوجل, واتباع أوامره وإجتناب نواهيه, والدعاء والتوسل إلى الله عزوجل, لرفع الضر والضيق وتفريج الكرب والشدة, فهو وحده سبحانه وتعالى بيده القضاء والقدر ومنزل الخير والشر ورافع الضر وكاشفه.

11- أن يكون مكسبه ومأكله ومشربه وملبسه ومسكنه من الحلال وأن يترك طرق كسب المال الحرام مهما كانت سهلة والكسب فيها كبيراً لأنها مصدر للقلق والضجر والأرق, وأن يسعى لكسب رزقه ورزق من يعوله بطرق الحلال حتى ولوكانت شاقة ومتعبة والرزق فيها قليلاً ففيه البركة والراحة والإطمئنان, وان يؤمن إيمانا كاملاً بأن الرازق هو الله تعالى وأنه لن يأخذ من الرزق إلا ما كتب له ربه سبحانه, ولن يفارق الدنيا إلا وقد أخذ كامل رزقه, وأن رزقه المكتوب له سيأخذه عن طريق الحلال إن صبر ولن ينقص منه شئ, وأن طرق الحرام لن تزيد في رزقه المكتوب له شئ,وأن رزقه الذي أخذه بالحرام كان سيأخذه بالحلال لو صبر وأتكل على مولاه وأشتغل في الطرق الحلال, دون أن ينقص من رزقه شئ ..
فكم من إناس يعيشون في غناء فاحش يكسبون المال بطرق الحرام, لا يعملون سوى ساعات قليلة من النهار على كرسي وطاولة في مكتب أنيق, يذهبون إلى العمل ويعودون إلى المنزل على سيارة فاخرة, ولكنهم رغم ذلك كله لا يعرفوا الراحة أو السعادة أو السرور, ولا يذوقوا للاطمئنان طعماً, يقضون الليل في أرق وسهر وضنك وضيق وحرج وتفكير , وكم من إناس يعملون طيلة نهارهم في أشق الأعمال ولا يكتسبون سوى قوت يومهم بعد شقاء وجهد وعناء, ولكنهم مع ذلك يعيشون في راحة وبهجة وسرور وسعادة واطمئنان..
12- حضور مجالس العلماء وسماع المحاضرات والندوات الدينية,وسماع الأشرطة الإسلامية من خطب ومحاضرات وقرآن كريم, والإبتعاد عن جلساء السواء ومجالس اللهو والتفرف والمجون, وترك سماع الأغاني الماجنة..
13- ترك أكل الربا أو التعامل به, لأن أكل الربا طريق الظنك والتخبط والمس, قال تعالى(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)سورة البقرة(275) وقد زادت في أيامنا هذه طرق التعامل بالربا, وأصبح الكثير من المسلمين يتعاملون بالربا دون خوف من الله عزوجل ومن عقابه, منها البنوك الربوية بمختلف أسمائها وتعاملاتها المنتشرة هذه الأيام في جميع الدول الإسلامية.
14- أن يتفكر بالموت وبمن سبقه ممن يعرفهم وأين ذهبوا وكيف أصبح مصيرهم, ويؤمن إيماناً جازماً بأن الموت قريب منه أقرب إليه من حبل الوريد, فلا يدري متى يأتيه الموت بغتة, فقد يأتيه وهو جالس, أو نائم على فراشه ,أو ماشياً على قدميه أو راكباً بسيارته بعد خروجه من منزله إلى عمله أو إلى قضاء حاجته, فكم من إناس خرجوا من منازلهم وهم في أتم الصحة, وفي ريعان الشباب, ولا يرجعون إلى منازلهم ولا يرون أهلهم ولا أهلهم يرونهم ولا تمضى عليهم دقائق أو ساعات إلا وقد أصبحوا جثث هامدة, يحملون على الأكتاف, إلى الدار الأخرة التي يسكنها كل إنسان, وهو القبر...

المحامي: محمد قايد محمد الصايدي - الجمهورية اليمنية- محافظة إب (Lawyer: Mohammed Qaid Mohammed Alsaidi)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق