الاثنين، 21 ديسمبر 2009

العدل وأهميته في المجتمع


العدل وأهميته في المجتمع

العدل صفة من صفات المولى عزوجل, وميزانه في الإرض, يؤخذ به للضعيف من القوي, وللمحق من المبطل, وللمظلوم من الظالم, وبه تصان الدماء والأنفس والأعراض والحرمات, وتحفظ الحقوق والحريات, والأموال والممتلكات, وبه تطبق القوانين والتشريعات على الجميع دون أية قيود أو إستثناءاث, سواء كانوا حكام أو محكومين, أفراداً أو جماعات.
وبه يرتدع الفاسد ويجازى المسئ ويعاقب المجرم, ويقضى على الفساد في البر والبحر, ويشاع الأمن والإطمئنان, ويعم السلام والإستقرار, وينتشر الخير في كل أرجاء البلاد, وتبنى البلدان وتزدهروتتطور...
قال تعالى(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)
ونظراً لأهمية العدل في حياة الشعوب والمجتمعات,ونظراً لدوره في بناء الدول وإزدهارها, وأمنها وإستقرارها, فقد جعله المولى عزوجل من إولى المهام التي بعث الرسل والأنبياء لأجل تحقيقها بين الناس, بعد دعوتهم إلى عبادة الله عزوجل وحده, قال تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)سورة الحديد الآية(25)
وهو إحدى الأوامر التي أمر بها الله عزوجل الرسل والأنبياء والحكام والولاة والقضاة, في كتبه المنزلة على رسله وأنبائيه, ومنها القرآن الكريم المنزل على خير الأنبياء والمرسلين, قال تعالى(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي)سورة النحل الآية(90), وقال تعالى(قل أمر ربي بالقسط)سورة الاعراف الآية(29)
بل أن المولى عزوجل, يأمر عباده المؤمنين بالعدل وأداء حتى ولوحكم على نفسه أو على أحد أبويه أو أولاده أو على أحد أقاربه, وهذا من أعلى مراتب العدل في الحكم والقضاء, قال تعالى(يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين)سورة النساء الآية(135)...
وما لا شك فيه ولا ريب إن الإمام أو الحاكم العادل النزيه التقي المقضي بشرع الله وأحكامه لا يخاف في قضائه إلا مولاه وخالقه, يكون له قدر كبير في المجتمع, ويحبه ويحترمه ويهابه الجميع حكام ومحكومين, ويكرمه الله عزوجل في دنياه بإستجابة دعواته فلا ترد أبداً, روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضى الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(ثلاثة لا ترد دعوتهم , الإمام العادل, والصائم حتى يفطر, ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء)
وأما في الأخرة فأن الله عزوجل جعل ثواب الحاكم والقاضي والامام والوالي العادل عظيم, وينعم عليه بالعديد من النعم والكرامات التي لا ينعم بها على غيره منذ البعث وحتى دخول الجنة منها:-
1- أن العدل يفك صاحبه من القيود والاغلال التي يؤتي به يوم القيامة وهو مغلولاً بها, عن أبي هريرة رضى الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلول لا يفكه إلا العدل أو يوبقه الجور) رواه البزاز والطبراني في الأوسط, وأحمد بإسناد جيد, رجاله رجال الصحيح, ورواه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم(2198) وقال بأنه حسن صحيح.
2- إن الله عزوجل يظل الإمام العادل في ظله يوم لا ظل إلا ظله, بل أنه أول الأصناف السبعة الذين يظلهم الله في ظله لما للعدل بين الناس من شأن عظيم على سائر الأعما ل الأخرى, عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله,إمام عادل, وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله أجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال أني أخاف الله, ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)متفق عليه.
3- أن عدل الحاكم في الغضب والرضا, أيضا ينجيه يوم القيامة من عذاب النار, عن أنس رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاث كفارات وثلاث درجات وثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الأقدام إلى الجماعات, وأما الدرجات فإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام, وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية, وأما المهلكات فشح مطاع وهو متبع وإعجاب المرء بنفسه)رواه البزاز واللفظ له والبيهقي وغيرهما وهو مروي عن جماعة من الصحابة وأسانيده وهو عند الألباني حسن لغيره رواه في صحيح الترغيب والترهيب برقم(453)
4- إن عدل القاضي والعمل بكتاب الله عزوجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في قضائه, من الأعمال التي تدخله الجنه, وبالعكس من ذلك فأن ظلمه وخروجه عن الحق وهو عالماً بذلك أو قضائه على جهل يدخله النار, عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: القضاة ثلاثة, اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة, ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار, ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار)رواه أبو داود والترمذي وإبن ماجه, وصححه الألباني
ولن يتحقق العدل في المجتمع إلا بوجود ولاة وحكام وقضاة, يتمتعون بالصفات التالية:
1-أن يكون متمسمكاً بكتاب الله عزوجل وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم, مواظباً على أداء الفرائض والأركان, متمتعاً بالصلاح والإستقامة والنزاهة والقناعة والخلق القويم, ومتمسكاً بأداب السلوك الإجتماعي بغير تكلف ولاعنت ,لا يدنس وظيفته بفاحشة ولا يسئ إلى سمعته بذنب أومعصية, وأن يحمي نفسه من الشبهات وأن يحصنها من الكبائر والمعاصي والذنوب والآثام والسيئات وأن يقيها من الجوارح والشهوات, وأن يحفظها من الأطماع والآفات.
2-أن يكون خالياً من العلل والعاهات التي تعيقه عن أداء وظيفته القضائية على الوجه المطلوب كالعمى أو الصمم أوالبكم .
3-أن يتمتع بصلابة في الحق تتأبى عن المؤثرات وتعصم من الشبهات,وأن يتمتع بمقدرة خاصة على التجرد والحيدة الكاملة..
4-أن يتمتع برقابة ذاتية وخوف من الله عزوجل, وشخصية قوية لا ميل فيها ولا هوى أو إنحراف ونفساً أبية سوية لا يستميله ترغيب ولا يحيد بها عن الحق ترهيب ورصانة ووقار وحضور ذهن وجهد ومثابرة.
5-أن يتمتع بالعلم الكافي باحكام الشريعة الإسلامية الغراء وبالقوانين النافذة والعرف السائد في البلاد, يصل به مرتبة الإجتهاد.
6-أن لا يطلب تولي القضاء وأن لا يسعى إليه من أجل الشهرة أو الحصول على مزية أو عطية أو من أجل المرتب الشهري أوالحصول على المال بطرق شرعية وغير شرعية.
7-أن يكون حكيماً لبيباً ذكياً فطناً بليغاً فصيحاً نبيهاً مهاباً, حازماً واسع الصدر, قوي التحمل لرزانة وجهل الخصوم, بطئ الغضب والإنفعال في مجلس قضائه, لا يمازح ولا يكثر الكلام إلا فيما يتعلق بقضائه ومناقشة الخصوم.
8-أن لا يجعل من وظيفة القضاء وسيلةً للحصول على الأموال وعلى الحطام الفاني, أوطريقاً لتحقيق مآرب شخصية وأطماع دنيوية.
9-أن لا يقبل رشوة أو هبة أوعطية من أحد الناس إطلاقاً ولا يضيف ولا يستضاف عند أحدهم , وأن يعامل الخصوم على مبدأ المساواة.
10-أن يتمتع بمقدرة خاصة على التجرد والحيدة الكاملة, فلا يتأثر بقرابة أو صداقة أو مصاهرة أوتوصية أو وجاهة أو وساطة, ولا ينحاز إلى حزب أو إلى تنظيم سياسي, وأن لا يجامل صاحب سلطة أو مسئولية أو منصب وظيفي كبير.
11-أن يسعى جاهداً ومجتهداً لتحقيق العدل وتطبيق أحكام الله وشريعته من أجل الحصول على رضا الله عزوجل والفوز بالجنة والنجاة من النار لان ذلك غايته وهدفه الأساسي في توليه لهذا المنصب العظيم, فلا تصدر أوامره أو أحكامه عن ردود أفعال فورية أو مرتجلة, ولكن عن مبادرات إيجابية مدروسة يحكمها منطق العدل والحق معاً بإقتدار وكفاءة علمية وشرعية وقانونية وطبقاً لأصول الفن القضائي.
وهذا ما أتصف به الكثير من ولاة المسلمين وقضاتهم في الأمصار الإسلامية منذ ظهور الإسلام, فكانوا يحكمون بالعدل والقسطاس, ويطبقون شرع الله عزوجل وأحكامه, بين والي ومحكوم, وغني وفقير, ومسئول ومواطن وقريب وبعيد وشريف ووضيع.
وقد نقلت لنا الكثير من الكتب التي خلفها لنا علماء المسلمين, العديد من الوقائع التي تمثل أعلى صور العدل القضائي, حدثت في حياة المسلمين مع العديد من القضاة والولاة الذين أتصفوا بالعدل وأشتهروا به....
أخرج أبو نعيم في الحلية قال: وجد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه درعاً له عند يهودي التقطها فعرفها, فقال: درعي سقطت عن جمل لي أورق, فقال اليهودي: درعي وفي يدي.
ثم قال اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين.
فأتوا شريحاً, فلما رأي علياً قد أقبل تحرف عن موضعه. وجلس علي فيه, ثم قال علي: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس, لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجلس, وساق الحديث.
قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين.
قال: درعي سقطت عن جمل لي أورق فالتقطها اليهودي.
قال شريح: ما تقول يايهودي .
قال: درعي وفي يدي.
فقال شريح: صدقت يا أمير المؤمنين إنها لدرعك ولكن لا بد من شاهدين.
فدعا قنبر والحسن بن علي وشهدا أنها درعه.
فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها, وأما شهادة أبنك لك فلا نجيزها.
فقال علي: ثكلتك أمك, أما سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(الحسن والحسن سيدا شباب أهل الجنة).
قال شريح: اللهم نعم.
قال علي: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنة.
ثم قال لليهودي: خذ الدرع.
فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي.
صدق والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل لك فالتقطتها, أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .
فوهبها له علي كرم الله وجهه,وأجازه بتسمعائة وقتل معه يوم صفين.
فهذه هي إحدى صور العدل القضائي, التي حققها قضاة المسلمين الأوائل رحمهم الله تعالى, وهناك صورة أخرى من أعلى صور العدل القضائي التي أمر بها المولى عزوجل, وهي أن يقضي الحاكم على إبنه لصالح امرأة عجوز,ذات ملابس بالية يظهر منها علامة البؤس والفقر, ولا وساطة لها ولا وجاهة, ولا دعم ولا سند إلا الله عزوجل وعدل الحاكم الذي رفعت إليه مسألتها...
وحكى أيضاً أن الخليفة المأمون إبن هارون الرشيد جلس يوماً للمظالم فكان آخر من تقدم إليه وقد هم بالقيام امرأة عليها هيئة السفر وعليها ثياب رثة فوقفت بين يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فنظر المأمون إلى يحيى بن أكتم فقال لها يحيى وعليك السلام يا أمة الله تكلمي حاجتك..
فقالت: ياخير منتصف يهدي له الرشد*** ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد القوم أرملة *** عدا عليها فلم يترك لها سبد
وابتز منى ضياعي حتى منعتها*** ظلماً وفرق مني الأهل والولد
فاطرق المأمون حينا ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:
في دون ما قلت زال صبري والجلد***عني وأقرح مني القلب والكبد
هذان أون صلاة العصر فانصرفي*** وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا*** ننصفك منه وإلا المجلس الأحد
فلما كان يوم الأحد جلس المأمون لنظر المظالم فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة فقالت:(السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته)
فقال المأمون: وعليك السلام, أين الخصم؟
فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين, وأومأت إلى العباس أبنه.
فقال المأمون : يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم.
فكان كلامها يعلو كلام العباس, فقال لها أحمد بن أبي خالد يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك .
فقال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها وأخرسه....
ثم قضى لها برد ضيعتها إليها, وأمربالكتاب لها إلى العامل ببلدها أن يوفر لها ضيعتها ويحسن معونتها وأمر لها بنفقة.
فهذا هو العدل الذي أمر به الله عزوجل في القرآن الكريم , وأمر به عباده على مر العصور والأزمان, وسار به رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وتابعيهم من بعده, عصراً بعد عصر, فعم خيرالإسلام كل البلاد ,وبه قويت الدولة الإسلامية العظمي الواحدة,حتى هابهم القاصي والداني, وأمتد نفوذها حتى وصل قارة أروبا والهند وأندونسيا وأطراف أفريقيا, وخير ما شهد به الأعداء لعدل ولاة المسلمين ماقاله مبعوث قيصر في الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه حينما رأه نائم على الأرض تحت ظل شجرة دون حراس يحرسونه كعادة ملوك العجم أئنذاك, فقال(حكمت فعدلت فأمنت فنمت ياعمر)...
فاين حكام وولاة المسلمين وقضاتهم في عصرنا هذا من هذه المقولة؟
بقلم المحامي: محمد قايد محمد الصايدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق